الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)
.فتح عمورية. وفي سنة ثلاث وعشرين خرج نوفل بن ميخاييل ملك الروم إلى بلاد المسلمين فأوقع بأهل زبطرة لأن بابك لما أشرف على الهلاك كتب إليه أن المعتصم قد وجه عساكره حتى خياطة يعني جعفر بن دينار وطباخه يعنى إيتاخ ولم يبق عنده أحد فانتهز الفرصة ثلاثا أو دونها وظن بابك أن ذلك يدعو المعتصم إلى إنفاذ العساكر لحرب الروم فيخف عنه ما هو فيه فخرج نوفل في مائة ألف وفيهم من المجمرة الذين كانوا خرجوا بالجبال وهزمهم إسحق بن إبراهيم بن مصعب فلحق بالروم وبلغ زبطرة فاستباحها قتلا وسبيا وأعاد على ملطية وغيرها ومثل بالأسرى وبلغ الخبر إلى المعتصم فاستعظمه وبلغه أن هاشمية صاحت وهي في أيدي الروم: وامعتصماه! فأجاب وهو على سريره لبيك لبيك! ونادى بالنفير ونهض من ساعته فركب دابته واحتقب شكالا من حديد فيها رداؤه وجمع العساكر وأحضر قاضي بغداد عبد الرحمن بن إسحق ومعه ابن سهل في ثلثمائة وثلاثين من العدول فأشهدهم بما وقف من الضياع ثلثا لولده وثلثا لمواليه وثلثا لوجه الله وسار فعسكر بقرى دجلة لليلتين من جمادى الأولى وبعث عجيف بن عنبسة وعمر الفرغاني وجماعة من القواد مددا لأهل زبطرة فوجدوا الروم قد ارتحلوا عنها فأقاموا حتى تراجع الناس واطمأنوا ولما ظفر ببابك أي بلاد الروم أعظم عندهم فقيل له عمورية فتجهز إليها بما لا يماثله أحد قبله من السلاح والآلة والعدد وحياض الأدم والقرب والروايا وجعل مقدمته أشناس وبعده محمد بن إبراهيم بن مصعب وعلى الميمنة إيتاخ وعلى الميسرة جعفر بن دينار الخياط وعلى القلب عجيف بن عنبسة وجاء إلى بلاد الروم فأقام بسلوقية على نهر السن قريبا من البحر وعلى مسيرة يوم طرطوس وبعث الأفشين إلى سروج وأمره بالدخول من درب الحرث وبعث أشناس من درب وأمره بانتظاره بالصفصاف وقدم وصيفا في أثر أشناس وواعدهم يوم اللقاء ورحل المعتصم لست بقين من رجب وبلغه الخبر أن ملك الروم عازم على كبس مقدمته فبعث إلى أشناس بذلك وأن يقيم ثلاثة أيام ليلحق به ثم كتب إليه أن يبعث إليه من قواده من يأتيه بخبر الروم وملكهم فبعث عمر الفرغاني في مائتي فارس فطاف في البلاد وأحضر جماعة عند أشناس أخبروه بأن ملك الروم بينما هو ينتظر المقدمة ليواقعها إذ جاءه الخبر بأن العساكر دخلت من جهة أرمينية يعني عسكر الأفشين فاستخلف ابن خاله على عسكره وسار إلى تلك الناحية فوجه أشناس بهم إلى المعتصم وكتب المعتصم إلى الأفشين بالمقام حذرا عليه وجعل لمن يوصل الكتاب عشرة آلاف درهم وأوغل في بلاد الروم فلم يدركه الكتاب وكتب المعتصم إلى أشناس بأن يتقدم والمعتصم في أثره حتى إذا كانوا على ثلاث مراحل من أنقرة أسر أشناس في طريقه جماعة من الروم فقتلهم وقال لهم شيخ منهم: أنا أدلك على قوم هربوا من أنقرة معهم الطعام والشعيرة فبعث معه مالك بن كرد في خمسمائة فارس فدل بهم إلى مكان أهل أنقرة فغنموا منهم ووجدوا فيهم جرحى قد حضروا وقعة ملك الروم مع الأفشين وقالوا: لما استخلف على عسكره سار إلى ناحية أرمينية فلقينا المسلمين صلاة الغداة فهزمناهم وقتلنا رجالهم وافترقت عساكرنا في طلبهم ثم رجعوا بعد الظهر فقاتلونا وحرقوا عسكرنا وفقدنا الملك وانهزمنا ورجعنا إلى العسكر فوجدناه قد انتقض وجاء الملك من الغد فقتل نائبه الذي استخلفه وكتب إلى بلاده بعقاب المنهزمين ومواعدتهم بمكان كذا ليلقى المسلمين بها ووجه خصيا له إلى أنقرة ليحفظها فوجد أهلها قد أجلوا فأمره الملك بالمسير إلى عمورية فوعى مالك ابن كرد خبرهم ورجع بالغنيمة والأسرى إلى أشناس وأطلق الأمير الذي دله وكتب أشناس بذلك إلى المعتصم ثم جاء البشير من ناحية الأفشين بالسلامة وأن الوقعة كانت لخمس بقين من شعبان وقدم الأفشين على المعتصم بأنقرة ورحل بعد ثلاث والأفشين في ميمنتة وأشناس في ميسرته وهو في القلب وبين كل عسكر وعسكر فرسخان وأمرهم بالتخريب والتحريق وما بين أنقرة وعمورية ثم وافى عمورية وقسمها على قواده وخرج إليه رجل من المنتصرة فدله على عورية من السور بني ظاهره وأخل باطنه فضرب المعتصم خيمته قبالته ونصبت عليه المجانيق فتصدع السور وكتب بطريقها باطيس والخصي إلى الملك يعلمانه بشأنهما في السور وغيره فوقه في يد المسلمين مع رجلين وفي الكتاب أن باطيس عازم على أن يخرج ليلا ويمر بعسكر المسلمين ويلحق بالملك فنادى المعتصم حرسه ثم انثملت فوهة من السور بين برجين وقد كان الخندق طم بأوعية الجلود المملوأة ترابا ثم ضرب بالذبالات عليها فدحرجها الرجال إلى السور فنشبت في تلك الأوعية وخلص من فيها بعد الجهد ولما جاء من الغد بالسلالم والمنجنيقات فقاتلوهم على تلك الثلمة وحارب وبدر بالحرب أشناس وجمعت المنجنيقات على تلك الثلمة وحارب في اليوم الثاني الأفشين والمعتصم راكب ازاء الثملة وأشناس وأفشين وخواص الخدام معه ثم كانت الحرب في اليوم الثالث على المعتصم وتقدم إيتاخ بالمغاوبة والأتراك واشتد القتال على الروم إلى الليل وفشت فيهم الجراحات ومشى بطريق تلك الناحية إلى رؤساء الروم وشكا إليهم واستمدهم فأبوا فبعث إلى المعتصم يستأمن فأمنه وخرج من الغد إلى المعتصم وكان اسمه وبدوا فبينما هو والمعتصم يحادثه أومأ عبد الوهاب ابن علي من بين يديه إلى المسلمين بالدخول فافتتحوا من الثلمة ورآهم وبدوا فخاف فقال له المعتصم: كل شيء تريده هو لك ودخل المسلمون المدينة وامتنع الروم بكنيستهم وسطها فأحرقها المسلمون عليهم وامتنع باطيس البطريق في بعض أبراجها حتى استنزله المعتصم بالأمان وجاء الناس بالأسرى والسبي من كل جانب واصطفى الأشراف وقتل من سواهم وبيعت مغانمهم في خمسة أيام وأحرق الباقي ووثب الناس على المغانم في بعض الأيام ينهبونها فركب المعتصم وسار نحوهم فكفؤا بعمورية فهدمت وأحرقت وحاصرها خمسة وخمسين يوما من سادس رمضان إلى آخر شوال وفرق الأسرى على القواد ورجع نحو طرطوس ولم يزل نوفل مملكا على الروم إلى أن هلك سنة تسع وعشرين ومائتين في ولاية الواثق ونصبا ابنه ميخاييل في كفالة أمه ندورة فأقامت عليهم ست سنين ثم اتهمها ابنها ميخاييل بقمط من أقماطها عليها وألزمها بيتها سنة ثلاث وثلاثين.
|